تأخّرت سورية في اللحاق بركب الثورات الشعبيّة، رغم ان ظروف الثورة وموجباتها في هذا البلد المنكوب بالفساد والاستبداد، كانت أكثر وانضح من تونس ومصر وليبيا واليمن، ومن أيّ بلد عربي آخر. وإذا كانت ولادة الثورة متعسّرة في سورية، فبالتأكيد أن تكللها بالنجاح، سيكون له تأثيره العميق والاستراتيجي في النهضة والتنوير والاصلاح في منطقة الشرق الأوسط برمّتها. ويعود ذلك لأهميّة موقع سورية ودورها الحضاري/ الاستراتيجي العميق تاريخيّاً، كونها كانت مسرحاً للصراع بين القوى المؤثّرة في صناعة التاريخ، ابتداءاً من الصراع بين الحثيين والفراعنة (المصريين)، والصراع بين الآشوريين والهوريين _ الميتانيين، ومروراً بالصراع بين بيزنطة وفارس، ثمّ الحروب الصليبيّة، فالصراع العثماني _ المصري (على زمن محمد علي باشا، ونجله ابراهيم باشا)، ثم حملة نابليون على سورية (حصار عكا)...، وهكذا دواليك، وصولاً لفترة الحرب العالميّة الأولى، وصوغ اتفاقيّة سايكس _ بيكو، واقتسام المنطقة بين الفرنسيين والانكليز، حيث اختار الانكليز العراق وفلسطين والاردن، (اعتماداً على الجانب الاقتصادي والديني، والتمهيد لولادة اسرائيل، حيث انيط ببريطانيا، دور القابلة للكيان العبري)، بينما رجّحت فرنسا، الحصول على سورية ولبنان لبسط نفوذها، اعتماداً على الاهميّة والوزن الثقافي والحضاري لهذه المنطقة. وحتّى بعد أن وضعت الحرب العالميّة الثانيّة أوزارها، وحصول سورية على الاستقلال بجلاء المستعمر الفرنسي، عادت سورية لحلبة التجاذبات والاستقطابات وتوازنات المحاور الدوليّة، وتحديداً، بين الكتلتين الغربيّة والشرقيّة (الاشتراكيّة السابقة)، وغدت سورية إحدى الاحداثيّات الاستراتيجيّة الهامّة على خريطة الحرب الباردة بين الكتلتين السابقتين، حيث مالت سورية صوب التوجّه السوفياتي السابق.
ومنذ مطلع الثمانينات، وبعد مرور عقد على انقلاب حافظ الاسد على رفاقه البعثيين، واستيلائه على السلطة عنوةً وقسراً، بدأت سورية تفقد حضورها الوازن والجاذب، دوليّاً وحتّى إقليميّاً. وبدأت تدخل مرحلة ما يمكن وصفه بالتوثين والتصنيم، وتطويب الدولة باسم القائد التاريخي، وآل بيته وحكمه، بخاصّة، بعد سحق التمرّد المسلّح لجماعة الاخوان المسلمين، بتلك الطريقة الوحشيّة البربريّة. وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي السابق، واختلال التوازنات الدوليّة، وظهور النظام العالمي الجديد، المعتمد على الاحاديّة القطبيّة/الاميركية، ازدادت وتيرة مصادرة الدولة والمجتمع، وتحييد حزب البعث، وما سمّي بالجبهة الوطنيّة التقدميّة، لصالح المضي قُدماً في عمليّة التصنيم والتوثين الأسدي، وزجّ مؤسسات الدولة، العسكريّة والأمنيّة والسياسيّة، وسلطاتها الثلاث (التشريعيّة والتنفيذيّة والقضائيّة.. على شكليّتها) في أكبر عملية إفساد وتدمير قيمي، وأخلافي، عبر توريط قطاعات وشرائح واسعة في النهب والسلب الممنهج لمقدّرات الدولة، وإتلاف طاقات المجتمع وإيصاله لمرحلة القطيعيّة العمياء، في أكثر اشكالها بؤساً واستمراءاً للقمع وانعدام الكرامة وخيانة الحريّة.
على هذه الأرضيّة، ووفق هذه المعطيات، استلم الأسد الابن الحكم. وبدوره، فاقم من بؤس التركة التي ورثها عن أبيه: بلد مسلوب الإرادة، ودولة مطواعة وعمياء، ومجتمع مغيّب ومنهوب القوى والطاقات ومنهك المفاعيل. لذا، لا غرابة في قول الأسد الابن: «سورية ليست مصر وتونس»!، محيلاً ذلك الى دورها العروبي المقاوم والممانع... للمشاريع الاستعماريّة...، إلى آخر هذا الكلام المنتمي لمخزون الثرثرة الفارغة في سبك وصوغ هذه الاهزوجة القومجيّة _ الثورجيّة المستنفدة!. لكن، حجم البؤس والتخريب والتدمير النفسي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي والتربوي... وفي كل مناحي الحياة، وعلى جميع الاصعدة، يؤكد بالفعل، إن سورية، ليست هي تونس ومصر، ولا ليبيا واليمن...!. ذلك ان نظام البعث/الأسد، مارس دماراً ضارياً وتعطيلاً للدولة ونهباً شرساً لها وللمتجمع منذ سنة 1963 وحتّى لحظة كتابة هذه الاسطر، بما ما لم تمارسه كل النظم الدكتاتوريّة العربيّة مجتمعةً بحق شعوبها وأوطانها. ناهيكم عن الحجم الكارثي والمرعب للتدخّلات والعبث الدموي في الشؤون اللبنانيّة والعراقيّة والتركيّة والفلسطينيّة...، الذي مارسه النظام السوري، خلال العقود الثلاثة الماضيّة!. وقياساً بحجم الحضيض الذي كان بلغته الدولة وبلغه المجتمع، وحجم الاختناقات السياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة...، بمعيّة النظام السوري، لا نبالغ إذا ما قارنا الثورة السوريّة بالثورة الفرنسيّة، من حيث مردودها الارتجاجي؛ المعرفي، النهضوي، الإصلاحي، والتنويري في سورية ومنطقة الشرق الأوسط. وهذا الرأي، لا يستند فقط الى أن نظام الأسد، الأب والابن، كان قد حوّل سوريّة إلى «باستيل» مفتوح، (وربما أفظع)، بل لأن ذهنيّة ووعي الطغمة الذي كان يمتلكه لويس السادس عشر في قوله: «أنا الدولة والدولة أنا»، يتجلّى أيضاً في مقولة/شعار: «سورية _ الأسد»، وتحول هذا الشعار السخيف الى ثقافة ووعي راسخ في مؤسسات الدولة.
وحتّى لو نحت الثورة السوريّة منحى الثورة الفرنسيّة، لجهة التهام ابنائها، (جرياً على بديهيّة تاريخيّة متعارف عليها، في ما يخصّ سيَر الثورات)، وحتّى لو استلم الاسلاميون السلطة، (وغالب الظن انهم سيستلمون)، فهذا لا يقلل من الاهميّة الاستراتيجيّة، البعيدة المدى، للثورة السوريّة، كونها أطاحت بـ»السكون القاتل» الذي غرسه ورسّخه الأسد الأب، وانعشه الأسد الأبن في شخصيّة الفرد والشعب والمجتمع والدولة السوريّة. هذا السكون البنيوي، السرطاني، أطيح به الآن. وبذا دخل المجتمع مرحلة الغليان والجدل والقلق الإيجابي، في سياق عمليّة التحوّل والبحث عن الهويّة والشخصيّة الوطنيّة والمجتمعيّة سياسيّاً وثقافيّاً ودستوريّاً، ومحاولة استعادة ما تمت مصادرته من قيّم وأخلاق وحيوات...، على مدى نصف قرن. نعم، لقد دخل المجتمع في سياق ما يمكن تسميته بـ»الاستقلاب البنيوي»، والخوض في إعادة تركيب وبناء الانسجة الوطنيّة، وترميم ما اتلفه النظام، عبر بثّه وإشاعته وترسيخه للعداوات والثارات غير المعلنة بين مكوّنات المجتمع السوري القوميّة والدينيّة والطائفيّة والمذهبيّة. أنها عمليّة اكتشاف سوريّة لذاتها، لحيويّة وتنوّع موزاييك سوريّتها، عبر الصدمة المؤلمة.
وفي الوقت عينه، إن البرء من أمراض وآفات وموروث تركة البعث/الاسد، على مدى نصف قرن، تحتاج لثورات، وليس ثورة وحسب، وذلك نتيجة تسرّب وتعشش هذا الموروث في وعي وحراك قوى المعارضة السوريّة أيضاً، دون استثناء. وبالتأكيد، أن كلفة الخلاص من هذه التركة ومورثها ومورّثاتها...، ستكون باهظة، وقد تستغرق سنوات. وربما يكون من ضمن هذه الأكلاف، الانزلاق نحو حرب أهليّة، لا سمح الله. وصحيح أن الثورة السوريّة، لم يمهّد لها عقول من وزن روسو، لكن، صحيح أيضاً، أن طغمة الأسد، لا تختلف عن طغمة النظام الملكي الفرنسي، آنئذ. ويمكن اعتبار تأثير الثورة التونسيّة والمصريّة والليبيّة، في الثورة السوريّة، بمثابة تأثير «العقد الاجتماعي» لروسو، والجهد الفكري والذهني لباقي التنويريين، في الثورة الفرنسيّة. فمسألة استيقاظ الشعب والدولة والمجتمع والسياسة والثقافة والاقتصاد ونظم التربية والتعليم...، من كابوس دام نصف قرن اسمه؛ نظام البعث/الأسد، ليس بالأمر الميكانيكي، والتلقائي والهيّن، كما قد يتصوّره البعض. إنها صدمة عنيفة وقويّة، قد تحدث تشويشاً واضطراباً، في المرحلة الانتقاليّة، ريثما يستقرّ الحال على المأمول والمرتجى، والذي سيكون، في أسوأ أحواله، أفضل من النظام السوري. على أن حصول المجتمع والدولة، على قابليّة التجريب والمحاولة، والنهوض واتباع خيارات أخرى، غير خيار: «الأسد للأبد»، هذا بحد ذاته، يعتبر ثورة شرق أوسطيّة، وخطوة باتجاه الثورة الذهنيّة والنهضة المجتمعيّة، سياسيّاً وثقافيّاً. وعليه، من يسعى للحؤول دون ذلك، عبر الاستخفاف بالثورة السوريّة، جهراً أو سرّاً!، وإثارة المخاوف من وصول الإسلاميين للسلطة، أو إحالة ما يجري في سورية إلى كونه من صنف «المؤامرة» التي تحيكها الامبرياليّة العالميّة، والحداثة الرأسماليّة للمنطقة، إلى آخر هذا الكلام الخشبي، بخاصّة إذا كان أصحاب هذه التوجّهات والآراء، يصنّفون أنفسهم ضمن خانة «معارضة» النظام السوري، فأولئك، هم القابعون في حضيض التواطؤ والتآمر مع النظام ضدّ عمليّة التغيير والتحوّل المجتمعي الذي تشهده سورية.
بالتأكيد، إن ولادة سورية جديدة، معافاة، ستكون مصحوبة بآلام مخاض فظيعة، وبأكلاف وأثمان باهظة. وبالتأكيد أيضاً وأيضاً، إن النظام الأسدي/البعثي، ومنظومته القيميّة... في سقوط مطرد. وجلّ الرعب والقلق والخوف، ليس في ما سيلي سقوط هذا النظام، بل بما ستكشفه خزائن هذا النظام من اسرار وفضائح، قد تكون كفيلة بإسقاط شخصيّات وأحزاب وتيّارات...، عربيّة وأقليميّة، تزعم المقاومة والممانعة والنضاليّة والثوريّة والحداثة...، حتّى لحظة لفظه لأنفاسه الأخيرة. وكما جرت العادة؛ بسقوط الانظمة الدكتاتوريّة، وفتح خزائن أسرارها، حينئذ؛ «ستسودُّ وجوه، وتبيضّ وجوه»!. وهذا ما حصل، غداة سقوط نظام صدّام حسين، حين تعرّت قامات سياسيّة وثقافيّة ومؤسسات وجماعات واحزاب... وسقطت. وكرّت السبحة، بسقوط نظام زين العابدين بن علي، ونظامي حسني مبارك ومعمّر القذّافي...، وبانت الأسرار، وظهرت اللوائح المريعة التي تضمّ طيفاً واسعاً ومتبايناً من المرتزقة السياسيّين والثقافيّين. وغالب الظنّ، إن حصّة لبنان، من الشخصيّات والاحزاب والهيئات...، التي ستغرق بغرق سفينة الأسد، ستكون اكبر. وينسحب الأمر على الاحزاب العراقيّة، في السلطة والمعارضة، وكذا الامر، بخصوص التيّارات الفلسطينيّة وبعض الجهات السوريّة والإقليميّة والدوليّة الاخرى. وقتئذ، الكل سيلجأ الى تبرير وتسويغ تعاونه وتعامله مع نظام الاسد. لكن، لعنة التاريخ ووصمة العار، ستبقى تلاحقهم، في حلّهم وترحالهم. وسيبقون محسوبين على الغرقى من ركّاب سفينة بشّار الأسد، حتّى لو كانوا على اليابسة. ولحين سقوط النظام السوري وفتح خزائنه، سيكون رعب وذعر المتعاونين معه، جهراً أو سرّاً، أضعاف رعب وذعر نظام الأسد نفسه. لذا نجدهم، يستخفّون بالثورة السوريّة، أو يشوّهونها، أو يهوّلون من مضاعفات سقوط النظام.
وربما القفز من سفينة الأسد، الآن، وقبل غرقها، قد يكفل لبعض القافزين، المتعاونين معه، بأن تكون اللعنة ووصمة العار التي ستلاحقهم، أخفّ!.
عن المستقبل اللبنانية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق